كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَتْ: اتِّسَاعُ بَطْنِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَلَمَّا عَرَفَ السَّلَفُ حَقِيقَتَهُ وَأَنَّهُ مُضَاهٍ لِقَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمُعَطِّلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَكَلَّمْ وَإِنَّمَا أَضَافَتْ الرُّسُلُ إلَيْهِ الْكَلَامَ بِلِسَانِ الْحَالِ كَفَّرُوهُمْ وَبَيَّنُوا ضَلَالَهُمْ وَمِمَّا قَالُوا لَهُمْ: إنَّ الْمُنَادِيَ عَنْ غَيْرِهِ- كَمُنَادِي السُّلْطَانِ- يَقُولُ: أَمَرَ السُّلْطَانُ بِكَذَا خَرَجَ مَرْسُومُهُ بِكَذَا لَا يَقُولُ إنِّي آمُرُكُمْ بِكَذَا وَأَنْهَاكُمْ عَنْ كَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وَيَقُولُ تَعَالَى إذَا نَزَلَ ثُلْثَ اللَّيْلِ الْغَابِرُ: «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» وَإِذَا كَانَ الْقَائِلُ مَلِكًا قَالَ- كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ: «إذَا أَحَبَّ اللَّهَ الْعَبْدَ نَادَى فِي السَّمَاءِ يَا جِبْرِيلُ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ وَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ» فَقَالَ جِبْرِيلُ فِي نِدَائِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ» وَفِي نِدَاءِ الرَّبِّ يَقُولُ: «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟».
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا فَيُنَادِي قِيلَ هَذَا لَيْسَ فِي الصَّحِيحِ فَإِنْ صَحَّ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ بِأَنْ يُنَادِيَ هُوَ وَيَأْمُرَ مُنَادِيًا يُنَادِي. أَمَّا أَنْ يُعَارَضَ بِهَذَا النَّقْلِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ الْمُسْتَفِيضُ الَّذِي اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ مَعَ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقُولُ: «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» فَلَا يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ جَهْمٌ كَانَ يُنْكِرُ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُسَمِّيهِ شَيْئًا وَلَا حَيًّا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. قَالَ: لِأَنَّهُ إذَا سُمِّيَ بِاسْمِ تَسَمَّى بِهِ الْمَخْلُوقُ كَانَ تَشْبِيهًا وَكَانَ جَهْمٌ مُجْبِرًا يَقُولُ: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَلِهَذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سَمَّى اللَّهَ قَادِرًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ. ثُمَّ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ دَخَلُوا فِي مَذْهَبِ جَهْمٍ فَأَثْبَتُوا أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُثْبِتُوا صِفَاتِهِ وَقَالُوا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَقَدْ يَذْكُرُونَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً لِئَلَّا يُضَافُ إلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ غَيْرُ مُتَكَلِّمٍ لَكِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ فَمَذْهَبُهُمْ وَمَذْهَبُ الْجَهْمِيَّة فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هُوَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَأُولَئِكَ يَنْفُونَ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا حَقِيقَةً. وَحَقِيقَةُ قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَكَلِّمٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَلَا مُرِيدٌ إلَّا مَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَلَا مُحِبٌّ وَلَا رَاضٍ وَلَا مُبْغِضٌ وَلَا رَحِيمٌ إلَّا مَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَى وَالْبُغْضُ وَالرَّحْمَةُ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ انْتَسَبَ فِي الْفِقْهِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لَا فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ وَلَا فِي الْقَدْرِ وَلَا الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَلَا إنْفَاذِ الْوَعِيدِ. ثُمَّ تَنَازَعَ الْمُعْتَزِلَةُ والْكُلَّابِيَة فِي حَقِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَلَوْ أَنَّهُ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِهِ لِيَقُولُوا إنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ. وَقَالَتْ الْكُلَّابِيَة: الْمُتَكَلِّمُ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا فَعَلَ فِعْلًا أَصْلًا بَلْ جَعَلُوا الْمُتَكَلِّمَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَيَاتُهُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ وَلَا حَاصِلَةً بِفِعْلِ مِنْ أَفْعَالِهِ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فَالْمُتَكَلِّمُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. لَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْكَلَامُ وَلَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَانَ كُلٌّ مِنْ تينك الطَّائِفَتَيْنِ الْمُبْتَدِعَتَيْن أَخَذَتْ بَعْضَ وَصْفِ الْمُتَكَلِّمِ:
الْمُعْتَزِلَةُ أَخَذُوا أَنَّهُ فَاعِلٌ والْكُلَّابِيَة أَخَذُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الْكَلَامِ ثُمَّ زَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّهُ يَكُونُ فَاعِلًا لِلْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ وَزَعَمُوا هُمْ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْكُلَّابِيَة كَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَقُومُ بِهِ الْفِعْلُ وَكَانَ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ وَقَالُوا لَا يَكُونُ الْفَاعِلُ إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ وَأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْفَاعِلَ لَا يَقُومُ بِهِ الْفِعْلُ وَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ إنَّ اللَّهَ فَاعِلُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا وَإِنَّ جَمِيعَ مَا يَخْلُقُهُ الْعَبْدُ فِعْلٌ لَهُ وَهُمْ يَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ وَيُقَسِّمُونَ صِفَاتِهِ إلَى صِفَاتِ ذَاتٍ وَصَفَاتِ أَفْعَالٍ مَعَ أَنَّ الْأَفْعَالَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْمَفْعُولَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ فَلَزِمَهُمْ أَنْ يُوصَفَ بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْقَبَائِحِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ هَذَا تَنَاقُضًا مِنْهُمْ تَسَلَّطَتْ بِهِ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ. وَلَمَّا قَرَّرُوا مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى إذَا قَامَ بِمَحَلِّ اُشْتُقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ وَلَمْ يُشْتَقَّ لِغَيْرِهِ مِنْهُ اسْمٌ كَاسْمِ الْمُتَكَلِّمِ نَقَضَ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ ذَلِكَ بِاسْمِ الْخَالِقِ وَالْعَادِلِ فَلَمْ يُجِيبُوا عَنْ النَّقْضِ بِجَوَابِ سَدِيدٍ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فَأَصْلُهُمْ مُطَّرِدٌ. وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مَا احْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ.
قَالُوا وَالْمَخْلُوقُ لَا يُسْتَعَاذُ بِهِ فَعُورِضُوا بِقَوْلِهِ أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك مِنْك فَطَرَدَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَصْلَهُمْ وَقَالُوا مُعَافَاتُهُ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَأَمَّا الْعَافِيَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي النَّاسِ فَهِيَ مَفْعُولُهُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ الْقَائِمَةُ بِهِمْ مُفَعْوِلَةٌ لَهُ لَا نَفْسُ فِعْلِهِ وَهِيَ نَفْسُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِ أُولَئِكَ نَفْيَ فِعْلِ الرَّبِّ وَنَفْيَ فِعْلِ الْعَبْدِ. فَتَسَلَّطَتْ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالْقَدْرِ تَسَلُّطًا بَيَّنُوا بِهِ تَنَاقُضَهُمْ كَمَا بَيَّنُوا هُمْ تَنَاقُضَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ أَقْوَالُهُمْ بَاطِلَةٌ فَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِ كُلِّ طَائِفَةٍ بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى فَيَعْرِفُ الطَّالِبُ فَسَادَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَلَا تَجِدُ الْحَقَّ إلَّا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَجِدُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إلَّا مُوَافِقًا لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ فَيَكُونُ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَمِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ يَعْقِلُ بِهِ وَأُذُنٌ يَسْمَعُ بِهَا بِخِلَافِ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}. وَقَدْ وَافَقَ الْكُلَّابِيَة عَلَى قَوْلِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَمِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَيْسَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ. وَحَدَثَ مَعَ الْكُلَّابِيَة وَنَحْوِهِمْ طَوَائِفُ أُخْرَى مَنْ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِ الكَرَّامِيَة مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ فَقَالُوا: إنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِحُرُوفِ وَأَصْوَاتٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِيَتَخَلَّصُوا بِذَلِكَ مِنْ بِدْعَتَيْ الْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة؛ لَكِنْ قَالُوا إنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ فِي الْأَزَلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ؛ بَلْ صَارَ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ سَبَبٍ أَوْجَبَ إمْكَانَ الْكَلَامِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْقَوْلُ مِمَّا وَافَقَ الكَرَّامِيَة عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ؛ لَكِنْ لَيْسَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ. وَهَذَا مِمَّا شَارَكُوا فِيهِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ فِي الْأَزَلِ ثُمَّ صَارَ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ سَبَبٍ أَوْجَبَ إمْكَانَهُ؛ لَكِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ إنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ بِهِ كَلَامٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ قَالُوا: وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ. قَالَتْ الْجَهْمِيَّة. وَالْمُعْتَزِلَةُ. لِأَنَّ الْحَوَادِثَ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَعْرَاضَ.
وَعِنْدَهُمْ لَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ قَالُوا لِأَنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَلَيْسَ هُوَ بِجِسْمِ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ.
وَقَالَتْ الْكُلَّابِيَة: بَلْ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ وَنَحْنُ لَا نُسَمِّي الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ عِنْدَنَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى بَاقِيَةٌ. وَقَالُوا: وَأَمَّا الْحَوَادِثُ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْمُنَازِعُونَ لِلطَّائِفَتَيْنِ: أَمَّا قَوْلُ أُولَئِكَ: إنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَلَيْسَ بِجِسْمِ فَتَسْمِيَةُ مَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ عَرَضًا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ مَا يُشَارُ إلَيْهِ جِسْمًا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ أَيْضًا والْجِسْمُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ الْبَدَنُ وَهُوَ الْجَسَدُ كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو فَلَفْظُ الْجِسْمِ يُشْبِهُ لَفْظَ الْجَسَدِ وَهُوَ الْغَلِيظُ الْكَثِيفُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ هَذَا جَسِيمٌ وَهَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا أَيْ أَغْلَظُ مِنْهُ. قَالَ تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} وَقَالَ تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} ثُمَّ قَدْ يُرَادُ بِالْجِسْمِ نَفْسُ الْغِلَظِ وَالْكَثَافَةِ وَيُرَادُ بِهِ الْغَلِيظُ الْكَثِيفُ. وَكَذَلِكَ النُّظَّارُ يُرِيدُونَ بِلَفْظِ الْجِسْمِ تَارَةً الْمِقْدَارَ وَقَدْ يُسَمُّونَهُ الْجِسْمَ التَّعْلِيمِيَّ وَتَارَةً يُرِيدُونَ بِهِ الشَّيْءَ الْمُقَدَّرَ وَهُوَ الْجِسْمِيُّ الطَّبِيعِيُّ وَالْمِقْدَارُ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْمُقَدَّرِ كَالْعَدَدِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الْمَعْدُودِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ دُونَ الْأَعْيَانِ. وَكَذَلِكَ السَّطْحُ وَالْخَطُّ وَالنُّقْطَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الْمَحَلِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ. قَالُوا وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَى الْجِسْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْمُشَارِ إلَيْهِ فَإِنَّ الرُّوحَ الْقَائِمَةَ بِنَفْسِهَا لَا يُسَمُّونَهَا جِسْمًا بَلْ يَقُولُونَ خَرَجَتْ رُوحه مِنْ جِسْمِهِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ جِسْمٌ وَرُوحٌ وَلَا يُسَمُّونَ الرُّوحَ جِسْمًا وَلَا النَّفَسَ الْخَارِجَ مِنْ الْإِنْسَانِ جِسْمًا لَكِنْ أَهْلُ الْكَلَامِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ يُسَمَّى جِسْمًا كَمَا اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ يُسَمَّى جَوْهَرًا ثُمَّ تَنَازَعُوا فِي أَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ هَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ أَوْ لَيْسَ مُرَكَّبًا لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ الْجِسْمُ عِنْدَنَا هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ أَوْ هُوَ الْمَوْجُودُ لَا الْمُرَكَّبُ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ فَإِذَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَغَيْرُهُمْ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ: إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمِ قِيلَ لَهُمْ: إنْ أَرَدْتُمْ بِالْجِسْمِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ جَوَاهِرَ فَرْدَةٍ أَوْ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ لَمْ نُسَلِّمْ لَكُمْ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُكُمْ: إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَا هُوَ كَذَلِكَ قِيلَ لَكُمْ إنَّ الرَّبَّ تَعَالَى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَالْعِبَادُ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَيَقْصِدُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى سُبْحَانَهُ وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا كَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ جِسْمٌ وَهُوَ مُحْدَثٌ- كَانَ هَذَا بِدْعَةً مُخَالِفَةً لِلُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَإِنْ قُلْتُمْ: نَحْنُ نُسَمِّي مَا هُوَ كَذَلِكَ جِسْمًا وَنَقُولُ إنَّهُ مُرَكَّبٌ قِيلَ تَسْمِيَتُكُمْ الَّتِي ابْتَدَعْتُمُوهَا هِيَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَمَنْ عَمِدَ إلَى الْمَعَانِي الْمَعْلُومَةِ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَسَمَّاهَا بِأَسْمَاءِ مُنْكَرَةٍ لِيُنَفِّرَ النَّاسَ عَنْهَا قِيلَ لَهُ: النِّزَاعُ فِي الْمَعَانِي لَا فِي الْأَلْفَاظِ وَلَوْ كَانَتْ الْأَلْفَاظُ مُوَافَقَةً لِلُّغَةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ مِنْ ابْتِدَاعِهِمْ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي يُعْلَمُ ثُبُوتُهَا بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ لَا تُدْفَعُ بِمِثْلِ هَذَا النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ الْبَاطِلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ كُلَّ مَا كَانَ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَتُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ فَإِنَّهُ لابد أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ فَهَذَا مَمْنُوعٌ؛ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ: مِنْ النُّظَّارِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: وَأَمَّا تَفْرِيقُ الْكُلَّابِيَة بَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ- الَّتِي تُسَمِّي الْحَوَادِثَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا لِأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ- فَيُقَالُ: قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْعَرَضَ الَّذِي هُوَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ وَالطُّولُ وَالْقِصَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ؛ بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْمُسَمِّي لِلصِّفَاتِ أَعْرَاضًا فَهَذَا أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ لِمَنْ قَالَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ عُرْفَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا عُرْفَ سَائِر أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَقَائِقُ الْمَعْلُومَةُ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا اخْتِلَافُ الِاصْطِلَاحَاتِ بَلْ يُعَدُّ هَذَا مِنْ النِّزَاعَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَالنِّزَاعَاتُ اللَّفْظِيَّةُ أَصْوَبُهَا مَا وَافَقَ لُغَةَ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ وَالسَّلَفِ فَمَا نَطَقَ بِهِ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ جَازَ النُّطْقُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا لَمْ يَنْطِقُوا بِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْكُلَّابِيَة مَا يَقْبَلُ الْحَوَادِثَ لَا يَخْلُو مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. فَقَدْ نَازَعَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فِي كِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ حَتَّى أَصْحَابُهُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ نَازَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ وَاعْتَرَفُوا بِبُطْلَانِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا سَلَفُهُمْ عَلَى نَفْيِ حُلُولِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَحَدَثَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مَنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ- مِمَّنْ هُوَ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَمِنْهُمْ كَثِيرٌ مِمَّنْ هُوَ يَنْتَسِبُ إلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَكَثُرَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ- فَقَالُوا بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَة وَبِقَوْلِ الْكُلَّابِيَة: وَافَقُوا هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ قَدِيمٌ وَوَافَقُوا أُولَئِكَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَأَحْدَثُوا قَوْلًا مُبْتَدَعًا- كَمَا أَحْدَثَ غَيْرُهُمْ- فَقَالُوا: الْقُرْآنُ قَدِيمٌ وَهُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِنَفْسِ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلًا وَأَبَدًا. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ بِحُجَجِ الْكُلَّابِيَة وَعَلَى أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ بِحُجَجِ الْمُعْتَزِلَةِ. فَلَمَّا قِيلَ لَهُمْ: الْحُرُوفُ مَسْبُوقَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ فَالْبَاءُ قَبْلَ السِّينِ وَالسِّينُ قَبْلَ الْمِيمِ وَالْقَدِيمُ لَا يُسْبَقُ بِغَيْرِهِ وَالصَّوْتُ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ فَضْلًا عَنْ قِدَمِهِ قَالُوا: الْكَلَامُ لَهُ وُجُودٌ وَمَاهِيَّةٌ كَقَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالُوا: وَالْكَلَامُ لَهُ تَرْتِيبٌ فِي وُجُودِهِ وَتَرْتِيبٌ مَاهِيَّةٌ الْبَاءُ لِلسِّينِ بِالزَّمَانِ هِيَ فِي وُجُودِهِ وَهِيَ مُقَارِنَةٌ لَهَا فِي مَاهِيَّتِهَا لَمْ تَتَقَدَّمْ عَلَيْهَا بِالزَّمَانِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً بِالْمَرْتَبَةِ كَتَقَدُّمِ بَعْضِ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى بَعْضٍ. فَإِنَّ الْكَاتِبَ قَدْ يُكْتَبُ آخِرُ الْمُصْحَفِ قَبْلَ أَوَّلِهِ وَمَعَ هَذَا فَإِذَا كَتَبَهُ كَانَ أَوَّلُهُ مُتَقَدِّمًا بِالْمَرْتَبَةِ عَلَى آخِرِهِ. فَقَالَ لَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ؛ فَإِنَّ الصَّوْتَ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ وَدَعْوَى وُجُودِ مَاهِيَّةِ غَيْرِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ دَعْوَى فَاسِدَةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالتَّرْتِيبُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ تَرْتِيبٌ لِلْحُرُوفِ الْمِدَادِيَّةِ وَالْمِدَادُ أَجْسَامٌ فَهُوَ كَتَرْتِيبِ الدَّارِ وَالْإِنْسَانِ وَهَذَا أَمْرٌ يُوجَدُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهُ مَعَ الثَّانِي بِخِلَافِ الصَّوْتِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ الْجُزْءُ الثَّانِيَ مِنْهُ حَتَّى يُعْدَمَ الْأَوَّلُ كَالْحَرَكَةِ فَقِيَاسُ هَذَا بِهَذَا قِيَاسٌ بَاطِلٌ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُطْلِقُ لَفْظَ الْقَدِيمِ وَلَا يَتَصَوَّرُ مَعْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَعْنِي بِالْقَدِيمِ إنَّهُ بَدَأَ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ الَّذِينَ نَازَعُوا هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ لَيْسَ بِقَدِيمِ لَمْ يَعْنُوا هَذَا الْمَعْنَى فَمَنْ قَالَ لَهُمْ: إنَّهُ قَدِيمٌ وَأَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا لَكِنَّهُ جَاهِلٌ بِمَقَاصِدِ النَّاسِ مُضِلٌّ لِمَنْ خَاطَبَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ مُبْتَدِعٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ الْحُرُوفَ الْقَدِيمَةَ وَالْأَصْوَاتَ لَيْسَتْ هِيَ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ وَلَا الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ الْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ يُسْمَعُ مِنْ الْقَارِئِ شَيْئَانِ: الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَهُوَ مَا لابد مِنْهُ فِي وُجُودِ الْكَلَامِ. وَالصَّوْتُ الْمُحْدَثُ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْمِدَادُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ مَخْلُوقٌ؛ لَكِنَّ الْحُرُوفَ الْقَدِيمَةَ لَيْسَتْ هِيَ الْمِدَادَ؛ بَلْ الْأَشْكَالُ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي تَظْهَرُ بِالْمِدَادِ وَقَدْ تُنْقَشُ فِي حَجَرٍ وَقَدْ تُخْرَقُ فِي وَرَقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمِدَادِ إنَّهُ قَدِيمٌ أَوْ مَخْلُوقٌ وَقَدْ يَقُولُ لَا أَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ بَلْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَكِنْ أَسَدُّ بَابَ الْخَوْضِ فِي هَذَا وَهُوَ مَعَ هَذَا يَهْجُرُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْحَقِّ وَمَنْ يُبَيِّنُ الصَّوَابَ الْمُوَافِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَمَعَ دَفْعِهِ لِلشَّنَاعَاتِ الَّتِي يُشَنِّعُ بِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَخَوْضُ النَّاسِ وَتَنَازُعُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ قَوْلٍ مُخْتَصَرٍ جَامِعٍ يُبَيِّنُ الْأَقْوَالَ السَّدِيدَةَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَانَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الَّتِي حَيَّرَتْ عُقُولَ الْأَنَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.